سكنَ الليلُ جسدي وهدأت العواصفُ والرياحُ التي كانت تجوب أقطار فكري الذي أوشكَ على الزوال من مساحةِ الوجودِ .... في هذه الليلة الشمطاء ككلِّ لياليَّ , جلستُ أتسامر مع كتبي ..... تخيَّرتُ بينها ..... تساءلتُ ؟
مَن مِن هذهِ العوالِمُ ستشاركني في مصارعة هذا الليل الطويل, ومجابهة جيوش ظلامه الحالك وكسر استبدادِه على روحي ؟ .... مَن مِن هذي الأطلال الفكرية ستمحو بعظمة أوابدها تاريخي وذكرياتي, ولو لبعض اللحظات على امتداد الليل الممل ؟!!!!
أعلمُ تماماً أنني قرأتهم جميعاً, وأتيقّنُ من استقرارِ كل سطورهم المرتبة داخل أحشائهم على صفحات رأسي.....
أغمضتُ عينيَّ قليلاً .... مددتُ يديَّ إليهم أمشِّط رؤوسهم برفقٍ ..... وهبْتُ ليديَّ الحرية الحمراء لتنتقي ما شاءت .... ما أسرع قرارها في مقابل ترددي الدائم !!!!!
يا ليتني كنتُ مثْلَها , لاعقلٌ (يتفكَّر) , ولا قلب (يتفطَّر) , ولا روح تتحسر ..
تحلَّقت منبري ... زرعتُ الكتاب عليه ... قلَّبت صفحاته .. صفحة صفحة , ابتدأتُ من الأولى ولم أدرِ عند أي من الصفحات توقفت ... صورتها على كل الصفحات .... كلماتها تحتل السطور ..... إحساسها ينبرجُ من كل المعاني على هامش الكلمات.
آهٍ ..... هذا ليس بكتاب من كتبي إنه مجمَعٌ للصور ليس إلا , تحمل في طياتها ذكرانا ...
ربَّاه أغثني..... لقد هربتُ من الذكرى, لا لأستقرَّ في جسدها مرة أخرى... أشعر أن قلبي استحال إلى صخرة جوفاء تحجب في داخلها ذكرى حبيبتي ولن تسمح لذكراها بأن تُطلِق العنان لجناحيها فتجوبُ فضاء اللانهاية إلى غير عودة....
ربَّاه كم أتمنَّى أن أصلّي لكَ صلاة نبيِّك صالح, حينما دعاك بأن تجيب مطلب قومه بإخراج ناقة من الصخرة الصماء.... كم أرجو يارب أن تأذن بانشطار صخرة قلبي .... لا لتخرج منها ناقة ...... بل لكي تتناثر من أعماقِه الصور والذكريات الحبيسة ...
ولكن أنَّى لي ذلك وأنا لست نبياً ؟!!!!
أنَّى لي أن أنساها وقد أقسمَت يوماً وقالت: سأحرقُ كل هذا الهشيم الحزين الذي يكسوكَ, سأجعلُ كل شيء من حولك ينادي في هواي.... سأرسمُ في كل ذرَّة منكَ صورتي .... سأمحو من رأسك كل الأسماء وأنقشُ على جبينك اسمي لتكونَ حياتُكَ كلها في هواي !!!
لقد وعدَتْ وأقسمَتْ وصدق وعدها, وها أنا إلى هذه اللحظة أهيمُ بها.... لقد كانت خير من يعِدْ ويلبِّي وعدَه, ولكن أيّ وعد روحي هذا الذي قطعته على نفسها ؟ ... وهل يستحيل المحبوب إلى إله يعِدُ عباده فينفذ وعدهُ بهم ؟ أنّى لها ذلك وهي لم تتخطَّ حدود البشر؟!!
هي وعدت وأنا عشقتُها , فنالت محبتي وإخلاصي , قررَتْ أن تستأثر بعقلي لتمحو منه الذكريات القديمة , وأن تمتلك قلبي لتقتلَ فيه التجارب الأليمة , وأن تنتشل روحي من قفصها لتطلقها في سماء الأحلام المخملية .....
لا أريد أن أتذكرها..... لا أريد أن أهاجر في جسد ذاكرتي, كم أتمنى أن يتحول بناني إلى مخالب حادة..... أنبشُ بها هذا الجسد فأنتشل منه كل الذكريات وأمحقها بكل قوتي..... أفتتها .... أقطعها ..... أنثرها في قبر النسيان .
ما استقلَّيتُ مركباً من مراكب الأيام والسنين الماضية لأبحر به في يمِّ التاريخ ,إلا وانتصبت أمامي صورٌ كثيرة ... جميعها تحمل في جسد الألوان لوحة تجريدية ممهورة باسم حبيبتي .... تحترق معظم الصور ... لا يبقى شيء منها سوى الرماد الذي يتناثر في الفضاء.... يحلِّق مع الريح .... يتكاثف ضباباً ... يمنع عني النظرَ إلا للصورتين الباقيتين اللتين تحملان تاريخين منفصلين.... الأولى ميلاد الحب يوم اللقاء.... والثانية يوم الوداع ..... وليس هناك صورة ثالثة يذكر فيها كيف انتهى حبي لها, إذ لم ينتهي بعدُ من مسيرهِ على أجداث أيامي.
يرسو مركب الذكرى على شاطئ جزيرة اللقاء, أتقوقع خلف منظار السفينة, أتفحص أجزاء الجزيرة, رأيتني هناك معها نلعب سوية كالأطفال وحيدين على الجزيرة, أتعرى من كل الأيام... أعرِّيها من كل الأحكام ... أحفر على هضابها اسمي ... أزرع في أحشاء روحها صورة حبي .... أغتسل بشلال شعرها المتدفق حتى قدميها .... يُحيط بي..... ليأسرني في أحضانها , لأغفو على أغنية الحب الدافئة ..... فترسم لي بأناملها الرقيقة أحلاماً عذبة , لا أملُّ من يقظتي , ولا أتبرَّم من غفوتي ....... أصحو فتثمل شفاهي وتتدحرج كلمات الحب منها لتنثر ومضات من الضياء قبل أن تحلق إلى السماء لتصبح سحابة كبيرة تحمل صورتها , فتمطر علينا فيروزاً وعقيقاً , ثم تتحول رمال الشاطئ إلى بستان من الأزهار والرياحين يملأ ريحها العطر أنفاسي ..أتركني هناك بين أحضان الطبيعة محلقاً في سماء عينيها مرتوياً من نبع شفتيها... سارحاً في بحر أنوثتها.
أبحرُ في خِضَمِّ الذكرى ... أرسو في جزيرة الوداع ... أراني هناك معها على شاطئ الجزيرة نجلس بجانب بعضنا البعض كالغرباء , تهمس في أذنيَّ كلمات الوداع وأنا أقلِّب صورة وجهي على صفحة الماء .... أتُراها ستبقيني وحيداً على الأرض أم في السماء؟.... ويدور بيننا حديث آخر مساء.
لم سترحلين؟
لا أستطيع أن أنتظر أكثر من ذلك...
لماذا؟
لأن ....... لأن الحب لا يجتمع مع الفقر وأنا بشر.
لكني أحبكِ.....!
أعلم ذلك .... ستنساني مع مرور الأيام.
لا أستطيع أن أنساكِ ... ولن أنساكِ ....
أعلم ذلك أيضاً .... ياعزيزي أنت ملاك ....!! محبتك وإخلاصك وفضائل قلبك لا تجتمع إلا في الملائكة.
إذاً لماذا تريدين الرحيل بعدما جئتِ؟....... ولماذا جئتِ إليَّ إن كنتِ تعلمين أنّك لا تقيمين؟
أرجوكَ أن تنساني, فقد صار الحب حكراً للملائكة, فهم لا يسكنون القصور ولا حتى الأكواخ... هم لا يأكلون أو يشربون, أما أنا فإنني بشر.... بشر.... بشر
اغرورقت عيناها بالدموع ثم همّت بالرحيل.
حزمَت في حقائبها كل ثياب سعادتي ... شرعت كل الأبواب ... غادرت منها جميعاً..... دخلَتْ رياح فراقها إليَّ من كل الأبواب المشرَعَة فنثرت كل أوراقي المتناثرة على أغصان قلبي.... ظلت شجرة الحب التي بذرَتْها حبيبتي في قلبي باثقةٌ إلى السماء لكنها عارية الأغصان متقشِّرة اللحاء ... تخاف كلَّ شيء حتى من النسيم الدافئ.....يبقى هذا القلب وحيداً, صحراء لا واحة فيه... احتضار لا موت ينهيه....
تضّطرم العباب وتكبر شيئاً فشيئاً..... تنتشل مركبي دونما إرادة مني , ليُبحرالمركب بين جزيرة الوداع وجزيرة البداية , وبين البداية والوداع وليس هناك من جزيرة ثالثة يستقر فيها هذا المركب , لأتركني هناك وحيداً في جزيرة الوداع.....
أرمي مجْمَع الصور عني وقد بانت الْسِنَة الفجر تتدفق من حنجرة الظلام أيمِّم وجهي نحو النافذة أراني يرقبني من صفحتها ..... آه .... ليس من جديد .
أرجوك أتوسَّل إليكَ بأن تتركَني وشاني, يقولُ لي: أنتَ ملاك
لا أيها الغبي أنا بشر ألا تراني أنا بشر
بل أنتَ ملاك ....
ألا ترى أمامك أيها الثمل أنني مثل بقية البشر.... تزوّج أبي من أمي فحمَّلها إيَّاني , وبمساحة صغيرة لا تجاوز أحشائها تشكّل جسدي .. وفيها اتحد مع روحي , وحين اكتمل لقاءهما ولدَتني , ومتراً واحداً في هذا العالم يكفيني لأعيش فيه سعيداً دون أن ينازعني عليه أحد ... ومساحة صغيرة بضعفه أرقدُ فيها تحت الأرض بسلام... ولي قلب صغير جداً يتربع فيه حب العالم كله.
ضحكَ وقالَ : ألا ترى بأنك ملاك ....
لا لستُ ملاكاً ولا أريد أن أكونَ ملاكاً بين البشر, أنا مثلهُم تماماً... أرجوكَ ابتعد عني ... ألا يكفيكَ ماتفعلهُ بي كل صباح ؟!!!!!
يردُّ بعبارتِه الدائمة : أنتَ ملاك ..... أنتَ ملاك...
أُمسِك رأسي بكلتا يديَّ , أتقوقع على نفسي ثم أنفلت في غرفتي كالثور الهائج , أنبشُ أرض جسدي .... أنتشلُ الخافق منه ..... أركلُه بما فيه .... فيطيرُ إلى زجاج النافذة كالقنبلة ... يُفجِّرني .... يبعثرني إلى شظايا تملأ المكان ..... أهدأ قليلاً.... أنظر عبر الزجاج المهشَّم.....وإذْ بإبنة جارنا الغني تُطلُّ من الشرفة المقابلة لغرفتي .... تَرمُقني بابتسامة ماكرة يزبد لها فمي ويقشعرُّ لها جسدي.... فيدخلُ ظلام شمسها رأسي
لتعلنني بشراً ............. أو شيئاً آخر!!