هكذا قصًّ عليًّ حكايته , كنتُ لا أعلم من هو , ومن أين أتى , وفي أي زمان حدثت حكايته , لكنه طلب أن أسردها كما هي , هي قصة حلم عاشَهُ يوماً ..... وعشتُهُ أباما ً.
عاد من عمله متعباً مرهقاً ينزف جبينه المغضّن عرقاً , وينزف قلبه يأساً وقنوطاً .... أسلم جسده المرهق لظلمة الكرى تحت لحاف الموت المتجدد , وأطلق للروح جناحيها ليخفقا في سماء الأحلام.
رأى نفسه يبتدئ رحلة إنسانية على طريق اللانهاية بعد أن انتقى من خريطة الزمن أرحب المسالك , متزوداً بما حمّله القدر ؟ .... امتطى صهوة الدرب الطويل ينشد غايته , يسعى في ظُلمة ليله , يمضي إلى أُحجيته كما يمضي الزمان إلى أحجيته في أناةٍ ومهلٍ وعزم, يمشي تارة ويركض أخرى ..... إلى أن بدأت مخالب الطريق تعانق رِحاله وتُبطؤ من مسيره , فكلَّ عزمه وتحولت أناته إلى ضعف موهن والطريق مازال طويلاً.
اعتلى بعض الهضاب , ارتفع لعلية بعض التلال والطريق مازال طويلاً......
خطف الليل نور النهار وجثم على الكون سكون رهيب مرهق , فجلس على قارعة الطريق يسأل من ماضيه ما يُعينه على حاضره , لكنه لايكاد يتذكر شيئاً ........ ولا شيء يكاد يتذكره.
وبينما هو غارق بالبحث في غابة الذكرى مرّت أمامه غيمة صيفية صغيرة بيضاء كالثلج , وقفت أمامه لحظة , وراحت تحط على الأرض رويداً رويداً ...... إلى أن ظهرت عليها أميرة صغيرة , تفترش الزنبق والرياحين , وتحوم حولها البلابل والقبَّرات وهي تغني على مسمع الوجود أناشيد المحبة........ يكسو بعض جسمها خمائل من قوس قزح , مخيطة بخيوط أشعة الشمس , لا يضاهي روعة هذا الكساء سوى رداء الكون بما فيه من النسيج والألوان.
صُعق لهذا المشهد الرائع , وراح يسأل نفسه : أتُراني ثملت من شراب الأمس , أم تُراني أسلمت رأسي لبحر الأحلام , أسدل ستار جفنيه هنيهة على سماء الحقيقة .... ثم رفع الستار ظناً منه بأن هذا الحلم سوف يمّحي , لكنه فوجئ بابتسامة الأميرة له التي راحت تطوي الأثير فوق مركبها عبر الطريق مخلِّفة ذيولاً طويلة من النور.
نهض من ركوده ولم يك من قبل قادراً على النهوض
ومشى وراءها ولم يك من قبل قادراً على المشي
ركض خلفها ساعياً آملاً بمعرفة سر هذا الكنز من الجمال , فتعلق بحبال النور المنزلقة على وعر الطريق , غير آبه لما يسرقه شوك الدرب من دماء قدميه ....
مروا على السهول بومضة برق كما يمر العمر على الأغنياء , واعتلوا الهضاب والتلال علو النسيم الدافئ .... كما يمر المال في أيدي الفقراء , وتخطُّو قامة الجبال كما تخطو الحقيقة بين أيدي الفلاسفة والشعراء .... وبعدما قطع مع الأميرة تلك المسافات الطويلة اختفت من أمامه ........... ورأى ظلام الليل يمد لسانه الكبير ليلعق مابقي من النور , فعادت أشباح الكآبة تسيطر على أفكاره وأرواح القنوط واليأس تجره إلى الوراء تارة وتغوِّره في أديم الأرض تارة أخرى ......... وعاد إلى مسيره ببطء شديد تتعثر خطاه حتى برمال الطريق.
مرت عليه فترة ليست بقصيرة وهو يعارك أمواج الطريق ويمخر العباب المضطرب .... وبينما هو ساكن على إحدى صدفاته يحاول أن يتذكر ما حدث معه تلك الأيام مع الأميرة التي محقت من رأسه ضروب اليأس والقنوط ..... لكنه لم يجد في ذاكرته سبيلا.
سأل نفسه هل يمكن أن تعود إلي من جديد بعدما غابت ؟....... من هي تلك الأميرة ؟؟؟
هي لم تكُ ملاكاً من السماء , ولا حورية من البحر , ولا إنسية من التراب ....... بل كانت روحاً انسلت عبر أنفاسي الهائجة والمضطربة فأعادت إليها السكنى والهدوء ......... اخترقت جسدي وامتزجت مع دمائي وغزَت كل عروقي وشراييني فنبض قلبي بها وبعثها رسائل عشق إلى كل الأعضاء ..... فنهضوا بإقدام لم أعرف له مثيلاً في أيامي ....... هي لم تك من نسج خيالي , لم تك من حياكة أحلامي , لم تك شيئاً رأيته بعينيّ ....... بل كانت حسّاً ..... شعوراً , ربت بيديه الدافئتين على قلبي اليتيم .
وبينما هو يفكر بها تارة وبدربه الطويل تارة أخرى , وثب من الأفق المظلم شعاع من النور كأنه الفجر ....انبثق ليهزم جلال الليل ..... سكن هذا النور عينيه الهزيلتين , وحول فيهما ظلمة الدموع إلى بريق يعين النهار في ضيائه ..
عادت الأميرة من جديد إلى ابتسامتها ونظرتها إليه في أول مرة فسكنه الشعور ذاته , لم تقوَ شفتيه على النطق .... سوى أن ردت إليها ابتسامتها ... فأومأت إليه أن اتبعني , فانصاع مغتبطاً لهذا الأمر الملكي مع أنها لم تغطي رأسها بتاج من الذهب !!! ولم تحمل في يديها الصولجان !!! ولم يٌحط من حولها العبيد والخُدَّام!!!؟
لحق بها متعلقاً بأهداب نورها وسارا معاً على هذا الطريق الطويل وكأنهما بصير يقود من خلفه أعمى !!! .... يعينه على مفترقات الطريق وعثراته , بقي الاثنان على هذا الحال حتى كادت الطريق أن تحترق تحت قدميه ظل مثابراً في خطواته علّه يمتطي صهوة الروضة الغنّاء ليعانق تلك الأميرة عناق العاشق المتلهف , لكنها ظلت بعيدة عنه بُعد الحقيقة عن العين , هي أمامه لكنه لا يستطيع أن يلامسها.
تكرر هذا اللقاء عدة مرات وفي الأخيرة عندما شعر باقتراب موعد رحيلها وثب أمامها يقبّل الأرض بين يديها , يرجوها , يتوسل إليها بأن لا تغادره ...... بأن لا تفارقه بينما راحت العبرات تعلن على وجنتيه وحشة فراقها .... لكنها بعنفوانها البريء وكبريائها المتوهج بالحنين , تحدثت إليه بدون أن تٌعنى شفاهها بالكلام , فانبثقت كلماتها الروحية إلى قلبه انبثاق نسمات الربيع في صباحه وقالت له:
أنا لست جسداً لتسكن إلي , بل أنا روحك التي تسكن جوارحك وتتخبط بين جنبيك , أنا الدماء التي تعشقها شرايينك. قم أيها المسكين وابدأ مسيرك من جديد, حاول , قاوم , قاتل , ستراني كلما أردت ذلك , لكن .... عندما تروم لقائي بصدق إرادتك وقوة عزمك , ولا تكن عبداً لليأس ..... فتصبح روحك مملكته وحقلاً يبذر فيه بذار القنوط ويغرس فيه غراس التراجع , فينمو الغرس في هذا الحقل لتحلِّق فوقه الغربان وتتغذى من ثماره .
أما الأن أقول لك ..... إلى لقاء قريب ؟!!!
ودعته بهذه الكلمات وهي تلوح له بكلتا يديها , بينما راح الظلام يحيك سترته من جديد على جسد الوجود ..... رد لها تحيتها وعبرات حزنه تمتزج مع ابتسامة تعلمًّها من جديد من تلك الأميرة !!! .
فتح عينيه على صوت ذي العرف الأحمر الذي راح يعلن عبر الأثير بداية فجر جديد , وذهب إلى عمله كالمعتاد
ولكنه لم يعرف حتى اليوم من هي تلك الأميرة !!.... أهي أميرة فعلاً ؟ أم وهم عاشه ويعيشه ؟ أم هي فعلاً تلك الدماء في جسده ؟
أم هي الأمل؟؟؟؟؟